30 - 07 - 2025

في حضرة الكلمة الإلهية | تجلٍّ جديد من سورة النبأ

في حضرة الكلمة الإلهية | تجلٍّ جديد من سورة النبأ

﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا • وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا • وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا • وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا • وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا • وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 6-11]

في هذه الآيات، يسوق القرآن الكريم تذكيرًا للإنسان بنعَمٍ كبرى تحيطه من كل جانب، بأسلوب تقريري استفهامي استنكاري، يوقظ القلب الغافل والعقل المتغافل. ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ أي بساطًا ممهَّدًا، صالحًا للحياة، مستقِرًّا للخلق، فيه رزقهم وأقواتهم. والمِهاد هو الفراش، يُهيَّأ للراحة، وفيه ملمح أمومي حانٍ كأن الأرض تحتضن من عليها. ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ شُبِّهت الجبال بالأوتاد التي تثبّت الخيام، فهكذا تثبّت الجبال القشرة الأرضية، مانعةً إياها من الاضطراب. صورة بديعة تُلهم الطمأنينة. ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ إشارة إلى حكمة بالغة في التكامل البشري والنفسي والاجتماعي، فالزوجية سُنة كونية: في الذكر والأنثى، في النفس والجسد، في الليل والنهار. ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ النوم فصل من الحياة، فيه راحة وانقطاع، و"سبات" من "سَبَتَ" أي انقطع وسكن، واللفظة تحمل بعدًا فسيولوجيًّا وروحيًّا دقيقًا. ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ سترًا وسكونًا، يغشى الناس كما يغشي اللباس البدن، فيهدأ فيه كل شيء، ويلتف الإنسان بأمنه من ضجيج النهار. ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ أي وقتًا للسعي والكسب والعمل. والمعاش من العيش، وكل حركة الإنسان في النهار خادمة لهذا المقصد.

البلاغة في الترتيب: لاحظ تناغم الألفاظ: مِهادًا، أوتادًا، أزواجًا... في سجع رقيق ينساب في النفس، وفي الوقت ذاته يُراكم المعنى تدريجيًّا من الجماد (الأرض والجبال) إلى الإنسان (الزوجية) إلى الظواهر اليومية (النوم، الليل، النهار). التصوير المتقن: "الليل لباسًا" استعارة حسّية غنية؛ جعل الليل كالثوب الذي يلفّ الجسد، يغمره في ستر وظلام وطمأنينة. الإيقاع الصوتي: الآيات متسقة الإيقاع، متناسبة المقاطع، تنتهي غالبًا بألفٍ مدّيةٍ مفتوحة (مِهادًا، أوتادًا...) مما يفتح أفق التأمل ويُدخل السكينة على النفس.

الإعجاز العلمي في هذه الآيات يدهشنا حين نقارنه باكتشافات العصر. الأرض مهادًا: اليوم نعلم أن الأرض ليست مجرد صخرة صلبة، بل ذات طبقات مهيأة للحياة، وميل محوري مناسب، وغلاف جويّ يحفظ الحرارة والرطوبة، وطبقة أوزون تمنع الأشعة الضارة. كل هذا يجعلها "مهادًا" حقيقيًّا، كما عبر النصّ القرآني. الجبال أوتادًا: علم الجيولوجيا الحديث يثبت أن الجبال لها جذور عميقة تحت سطح الأرض تشبه الوتد فعليًّا، وهي تُثبّت الصفائح التكتونية وتمنع الزلازل المفاجئة أو تحدّ من مداها. النوم سباتًا: السبات كما فسره العلم: هو انخفاض في نشاط الدماغ، انخفاض حرارة الجسم، إبطاء نبضات القلب والتنفس، وإفراز هرمونات إعادة البناء الجسدي والنفسي. وهي معاني دقيقة للفظ "السبات". الليل لباسًا والنهار معاشًا: الساعة البيولوجية للإنسان (circadian rhythm) أثبتت أن الظلام يطلق إفراز الميلاتونين الذي يهيئ الجسم للنوم، والضوء يوقفه ويحفز الكورتيزول المسؤول عن النشاط. فسبحان من نظم ذلك فقال: "وجعلنا النهار معاشًا".

في هذه الآيات درس بليغ في أن النعم المحيطة بالإنسان ليست مجرد وقائع يومية معتادة، بل هي تدبير إلهيّ محكم يستحق الشكر والتأمل. إن القرآن يربّينا على أن نُبصر ما ألفناه من حولنا، ونقرأ كتاب الكون كما نقرأ كتاب الوحي، فالوحي ناطق والكون صامت، وكلاهما من مصدرٍ واحد.

هذه الآيات ستٌّ فقط، ولكنها تفتح في النفس ستين بابًا من التأمل، وتجعل الإنسان يُدرك أن حياته ليست عشوائية، بل محاطة برعاية قدسيّة وخلق موزون، ونعمة ممهّدة تدعو إلى الحمد والخشوع. ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ﴾
------------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى


مقالات اخرى للكاتب

في حضرة الكلمة الإلهية | تجلٍّ جديد من سورة النبأ